لماذا تخضع عمليات التركز الاقتصادي لرقابة دقيقة في نظام المنافسة السعودي؟ هل يمكن لأي منشأة تنفيذ استحواذ أو اندماج دون قيود، أم أن هناك إطارًا قانونيًا يحكم هذه العمليات لضمان عدم الإخلال بتوازن السوق؟ أسئلة محورية تتعلق بواحد من أكثر المفاهيم تأثيرًا في ديناميكيات المنافسة، وهو التركز الاقتصادي، الذي يمكن أن يُعيد تشكيل المشهد التنافسي في أي قطاع، سواء عبر تعزيز الكفاءة وتحقيق وفورات الحجم، أم من خلال تكريس سيطرة غير عادلة قد تؤثر على المنافسة الحرة.
ونظرًا لأهمية هذه العمليات وتأثيرها الواسع على السوق، لم يترك نظام المنافسة السعودي ولائحته التنفيذية أي مجال للغموض بشأن كيفية تنظيمها، بل وضع ضوابط تفصيلية دقيقة تحكم جميع مراحل التركز الاقتصادي، بدءًا من تعريفه وتحديد أطرافه، مرورًا بمتطلبات الإبلاغ عنه وإجراءاته النظامية، وصولًا إلى الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها الهيئة العامة للمنافسة في مراجعته وتقييمه. فكل خطوة في هذه العملية تخضع لمعايير قانونية صارمة، تضمن عدم استغلال التركز الاقتصادي بطرق قد تضر بالمنافسة العادلة، أو تؤدي إلى احتكار السوق، أو تمنح أي منشأة ميزة غير عادلة على حساب منافسيها.
ومن هذا المنطلق، فإن النظام لم يقتصر على إلزام المنشآت بالإبلاغ عن عمليات التركز الاقتصادي قبل تنفيذها، بل منح الهيئة العامة للمنافسة صلاحية تقييم هذه العمليات حتى لو لم يتم الإبلاغ عنها، كما أجاز لها طلب المعلومات والبيانات والمستندات من أي طرف ذي علاقة، مما يعزز قدرتها على الرقابة الفاعلة ومنع أي ممارسات قد تؤثر سلبًا على التنافسية في السوق.
ومن خلال هذا المقال، سيتم استعراض كيفية تنظيم النظام السعودي لهذه العمليات، والضوابط الإلزامية التي تحكمها، إضافةً إلى الآليات الرقابية التي تتبعها الهيئة العامة للمنافسة لضمان التزام المنشآت بالقواعد المقررة، مما يعكس التوازن الدقيق بين حرية الاستثمار وحماية المنافسة العادلة في السوق السعودية.

أولًا: ما المقصود بالتركز الاقتصادي وفقًا لنظام المنافسة السعودي؟
عرّف نظام المنافسة السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/75) بتاريخ 29/6/1440هـ، في مادته الأولى، مفهوم التركز الاقتصادي بأنه: كل عملٍ ينشأ عنه نقل كلي أو جزئي لملكية أصول أو حقوق أو أسهم أو حصص أو التزامات منشأة إلى منشأة أخرى، أو الجمع بين إدارتين أو أكثر في إدارة مشتركة، وذلك وفقًا للضوابط والمعايير التي تحددها اللائحة التنفيذية.
وقد أوضحت اللائحة التنفيذية الصادرة بالقرار رقم (337) بتاريخ 25/1/1441هـ تفاصيل هذا المفهوم بصورة أدق، مبينةً أن التركز الاقتصادي يتحقق عن طريق عدة صور قانونية، من أبرزها عمليات الاندماج أو الاستحواذ أو التملك، كما قد يأخذ صورًا أخرى تؤدي إلى التحكم في منشأة واحدة أو أكثر، بما في ذلك القدرة على التأثير في قرارات تلك المنشآت أو في تشكيل جهازها الإداري، أو آليات التصويت داخلها.
ومن جهة أخرى، ميّزت اللائحة التنفيذية بوضوح بين نوعين من الأطراف التي تتعلق بعمليات التركز الاقتصادي؛ النوع الأول يُسمى “أطراف التركز الاقتصادي”، وهم المنشآت التي تشارك فعليًا أو ترغب في المشاركة في هذه العمليات، سواءً تقدمت بطلب رسمي للحصول على الموافقة لإتمام التركز الاقتصادي أم لم تتقدم.
أما النوع الثاني، فقد عرّفته اللائحة التنفيذية تحت مسمى “الأطراف ذات العلاقة بالتركز الاقتصادي”، وهم الأطراف الذين قد يتأثرون بالتركز الاقتصادي بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ومنهم المنافسون، والعملاء، والموردون، والموزعون، وأصحاب المصالح الأخرى.
ثانيًا: ما هي متطلبات الإبلاغ عن عمليات التركز الاقتصادي في نظام المنافسة؟
وضع نظام المنافسة السعودي واللائحة التنفيذية متطلبات واضحة ودقيقة لإبلاغ الهيئة العامة للمنافسة عن عمليات التركز الاقتصادي التي تنوي المنشآت تنفيذها، وذلك لضمان الرقابة الدقيقة على السوق وتحقيق المنافسة العادلة.
ونصت المادة السابعة من نظام المنافسة على إلزام المنشآت الراغبة في المشاركة في أي عملية تركز اقتصادي بأن تُبلغ الهيئة العامة للمنافسة بهذه العملية قبل (تسعين) يومًا على الأقل من تاريخ إتمامها، وذلك إذا تجاوز إجمالي قيمة المبيعات السنوية للمنشآت المشاركة الحد المالي الذي حددته اللائحة التنفيذية.
وجاءت المادة الثانية عشر من اللائحة التنفيذية لتضع أحكامًا أكثر تفصيلًا ودقة لهذا الالتزام، حيث حددت مبلغ (200,000,000) مائتي مليون ريال كقيمة سنوية لإجمالي المبيعات لجميع المنشآت الراغبة في المشاركة، كحد أدنى يوجب ضرورة الإبلاغ. كما عالجت اللائحة الحالات التي يتعذر فيها تقدير قيمة المبيعات بشكل واضح، حيث نصت على تقدير قيمة المبيعات السنوية للمنشآت التي لا تمتد أعمالها لعام مالي كامل، أو التي يصعب تحديد قيمة مبيعاتها بشكل دقيق، وفق طبيعة النشاط وظروف كل حالة على حدة.
كما منحت اللائحة التنفيذية في المادة نفسها (المادة الثانية عشر) للمجلس الحق في تحديد معايير إضافية خاصة بالحالات التي يصعب فيها تحديد أو التحقق من إجمالي قيمة المبيعات السنوية، مع ضرورة نشر هذه المعايير قبل ثلاثين يومًا على الأقل من بدء تطبيقها لضمان الشفافية والوضوح.
علاوة على ذلك، أوضحت المادة الرابعة عشر من اللائحة التنفيذية بشكل تفصيلي الاشتراطات الواجب توفرها حتى يُعتبر الإبلاغ عن عملية التركز الاقتصادي مكتملاً ومرتبًا لآثاره النظامية، وهذه الاشتراطات تشمل:

- أن يتم تقديم الإبلاغ للهيئة قبل (تسعين) يومًا من إتمام عملية التركز الاقتصادي، مع حساب هذه المدة بدءًا من تاريخ إخطار مقدم الإبلاغ رسميًا من الهيئة باكتمال ملفه، ودون المساس بحق الهيئة في طلب معلومات إضافية خلال مدة الدراسة.
- ضرورة تعبئة النماذج الرسمية التي تخصصها الهيئة لهذا الغرض بشكل واضح ودقيق، مع إرفاق جميع المستندات اللازمة وإقرار رسمي من مقدم الإبلاغ بصحة البيانات والمستندات المرفقة.
- وجوب سداد المقابل المالي المقرر نظير فحص طلب التركز الاقتصادي، وفق الآليات والإجراءات التي تحددها الهيئة.
- تقديم تقرير تفصيلي يشمل:
- المعلومات الأساسية عن عملية التركز الاقتصادي وأطرافها.
- وصف القطاعات والأسواق المعنية بالتركز.
- تحليل التأثير المحتمل لعملية التركز الاقتصادي على المنافسة في السوق.
- بيان بأبرز العملاء المتأثرين بعملية التركز.
- تحديد أبرز المنافسين في السوق.
- توفير أي معلومات أو بيانات أو مستندات إضافية قد تطلبها الهيئة أثناء دراستها لعملية التركز الاقتصادي، بهدف ضمان تقييم دقيق وشامل لآثار هذه العملية على المنافسة في السوق.
ثالثًا: كيف تتم دراسة عمليات التركز الاقتصادي وفقًا لنظام المنافسة؟
تناول نظام المنافسة السعودي ولائحته التنفيذية الإجراءات المتعلقة بدراسة عمليات التركز الاقتصادي، لضمان الرقابة الدقيقة والفاعلة على هذه العمليات ومنع أي إخلال بالمنافسة في الأسواق.
فوفقًا لما ورد في المادة التاسعة من نظام المنافسة، فإن اللائحة التنفيذية هي التي تتولى توضيح الإجراءات التفصيلية للإبلاغ عن عمليات التركز الاقتصادي، بما في ذلك تحديد محتوى الإبلاغ والمعلومات والمستندات الواجب تقديمها. ويهدف ذلك إلى توحيد إجراءات الإبلاغ، وضمان حصول الهيئة العامة للمنافسة على البيانات الكاملة والدقيقة التي تمكنها من دراسة التركز الاقتصادي بعمق وموضوعية.
وفي هذا الإطار، منحت المادة التاسعة عشر من اللائحة التنفيذية الهيئة صلاحية واسعة في جمع البيانات والمعلومات والمستندات ذات الصلة بالتركز الاقتصادي، سواء من أطراف التركز الاقتصادي أم من الأطراف ذات العلاقة، بغض النظر عما إذا كانت المنشآت قد تقدمت بالإبلاغ أم لم تتقدم. كما أجازت للهيئة قبول وتحليل البيانات والمستندات المقدمة من أي طرف، ومن ثم تقدير مدى الاعتماد عليها في دراسة التركز الاقتصادي.
ونصت المادة الثالثة عشر من اللائحة التنفيذية على أن المجلس يصدر قرارًا خاصًا يحدد فيه المقابل المالي المقرر لفحص ودراسة عمليات التركز الاقتصادي. ويُعد هذا القرار مهمًا للغاية من الناحية التنظيمية، إذ يوضح مقدار الرسوم المقررة على المنشآت الراغبة في تنفيذ عمليات التركز، ويُنشر هذا القرار بشكل علني لضمان الشفافية والوضوح لجميع الأطراف، كما يملك المجلس حق تعديل هذا المقابل المالي كلما دعت الحاجة.
كما تناولت المادة الخامسة عشر من اللائحة التنفيذية تفاصيل دقيقة جدًا تتعلق بكيفية حساب المدد الزمنية الخاصة بدراسة الهيئة للتركز الاقتصادي، والتي تبلغ (تسعين) يومًا. وقد أوضحت اللائحة ما يلي:
- إذا انتهت مدة دراسة التركز الاقتصادي في يوم يوافق إجازة رسمية، فإن اليوم الأول للعمل التالي مباشرةً يُعد اليوم الأخير لتلك المدة؛ لضمان عدم تأثر مدد دراسة الطلبات بالعطلات الرسمية.
- وأكدت اللائحة التنفيذية على أنه في حال طلبت الهيئة العامة للمنافسة معلومات أو مستندات إضافية من مقدم طلب التركز الاقتصادي، فإنه يتم إيقاف احتساب المدة المقررة للدراسة ابتداءً من تاريخ طلب تلك المعلومات وحتى تاريخ استلامها بشكل كامل وصحيح. ولا تحتسب هذه الفترة من مدة التسعين يومًا المخصصة للدراسة. إضافةً إلى ذلك، فإن إبلاغ الهيئة لا يُعد مكتملًا ومستوفيًا شروطه النظامية إلا إذا قام مقدم الطلب بتزويد الهيئة بكافة المعلومات والمستندات المطلوبة خلال المدة التي تحددها الهيئة.
رابعًا: ما هي صلاحيات الهيئة في متابعة عمليات التركز الاقتصادي؟
حدد نظام المنافسة السعودي واللائحة التنفيذية صلاحيات الهيئة العامة للمنافسة فيما يتعلق بتقييم عمليات التركز الاقتصادي، لضمان الرقابة الفعالة على الأسواق والحفاظ على المنافسة العادلة.
فوفقًا للمادة السادسة عشر من اللائحة التنفيذية، يحق لمقدم طلب الإبلاغ عن عملية التركز الاقتصادي سحب طلبه بعد تقديمه، وفي هذه الحالة يُعتبر الإبلاغ ملغيًا ولا يترتب عليه أي آثار قانونية لاحقة. إلا أن هذا السحب لا يُرتِّب أي حق لمقدم الإبلاغ في استرداد المبالغ المالية التي سبق دفعها كرسوم لفحص التركز الاقتصادي وفقًا لما نصّت عليه الفقرة (3) من المادة الرابعة عشرة من اللائحة، مما يؤكد جدية وأهمية قرار الإبلاغ عن عمليات التركز الاقتصادي قبل الشروع فيه.
كما منحت المادة السابعة عشر من اللائحة التنفيذية الهيئة صلاحية واسعة في الرقابة على عمليات التركز الاقتصادي، وأكدت على أن عدم قيام أطراف التركز الاقتصادي بتقديم الإبلاغ الذي يوجبه النظام لا يحول دون قيام الهيئة بممارسة حقها الأصيل في المبادرة لفحص وتقييم هذه العمليات، سواء تم ذلك قبل إتمام التركز الاقتصادي أم بعد إتمامه. ويحق للمجلس، في حال إتمام المنشآت لعملية التركز الاقتصادي قبل صدور قرار من الهيئة أو انتهاء المدة النظامية للدراسة، أن يكلف هذه المنشآت بتعديل أوضاعها وإلغاء التركز الاقتصادي خلال مدة يحددها المجلس، مع إلزام المنشآت بتحمل جميع المسؤوليات والتبعات التي قد تنشأ نتيجة إتمام هذه العملية قبل حصول الموافقة اللازمة من الهيئة.
وتبرز أهمية هذه الصلاحية في ضمان احترام الإجراءات النظامية، والتأكد من أن عمليات التركز الاقتصادي لا تؤدي إلى أي إخلال بالمنافسة أو ضرر بالأسواق نتيجة الإهمال أو التجاوز للإجراءات القانونية المقررة.
كما نصت المادة الثامنة عشر من اللائحة التنفيذية على صلاحية الهيئة في المشاركة في المناقشات الأولية التي قد تجرى بين المنشآت بشأن عمليات التركز الاقتصادي المزمع إجراؤها، وذلك بناءً على طلب كتابي من أي طرف من أطراف التركز الاقتصادي. ويأتي ذلك من باب توضيح المسائل النظامية والإجرائية ذات الصلة بشكل مبكر قبل الإبلاغ الرسمي. لكن من المهم التنويه بأن مشاركة الهيئة في هذه المناقشات لا تؤدي بأي حال من الأحوال إلى ترتيب أي آثار قانونية على الإبلاغ الإلزامي للهيئة، كما لا تعني موافقة الهيئة على أي تنسيق أو اتفاق بين المنشآت إذا كان ذلك التنسيق أو الاتفاق مخالفًا لأحكام النظام أو اللائحة التنفيذية.
وهذه الصلاحية تتيح للهيئة فرصة الاطلاع المبكر على توجهات المنشآت بخصوص عمليات التركز الاقتصادي وتقديم الإرشاد القانوني اللازم دون المساس بواجبها الرقابي أو صلاحياتها النظامية اللاحقة.
وختامًا
يتضح أن نظام المنافسة السعودي قد صاغ إطارًا قانونيًا دقيقًا لتنظيم عمليات التركز الاقتصادي، متضمنًا مراحل واضحة تبدأ بتعريف هذا المفهوم، مرورًا بمتطلبات الإبلاغ عنه، وصولًا إلى دراسة تأثيره وصلاحيات الهيئة العامة للمنافسة في تقييمه. فمن خلال هذه الأحكام التفصيلية، تضمن الهيئة رقابة دقيقة تمنع أي استغلال غير مشروع للتركز الاقتصادي، مع إتاحة المجال للمنشآت لمناقشة عملياتها مسبقًا دون الإخلال بالضوابط النظامية. ومع ما تتمتع به الهيئة من صلاحيات واسعة، فإن المنشآت التي لا تمتثل لهذه القواعد تجد نفسها أمام التزام قانوني صارم يفرض عليها تعديل أوضاعها أو حتى إنهاء عمليات التركز إذا ثبت إخلالها بالمنافسة. وهذا التوازن الدقيق بين حرية الاستثمار ومتطلبات المنافسة العادلة هو ما يجعل النظام السعودي نموذجًا متطورًا في تنظيم السوق وحماية مكوناته من أي ممارسات قد تؤثر على عدالة المنافسة واستدامتها.
