تُعد عقود ترخيص العلامة التجارية من أبرز الأدوات القانونية التي ابتكرها النظام الخليجي لتمكين مالك العلامة من استثمارها تجاريًا، دون أن يُفرّط في ملكيتها. فهي تُمثل آلية متوازنة تتيح نقل حق الاستخدام – وليس الملكية – إلى الغير، بموجب اتفاقٍ تعاقدي يُقيد بمدة وشروط ونطاق يحدده الطرفان. وقد حرص نظام العلامات التجارية لدول مجلس التعاون الخليجي على تنظيم هذه العقود تنظيمًا تفصيليًا، بدءًا من شروط انعقادها، ومرورًا بالقيود المسموح بفرضها على المرخص له، ووصولًا إلى آليات القيد في السجل وشطب العقد، مع منح صلاحيات واضحة لكل طرف، وضمانات نظامية تمنع إساءة الاستغلال أو الإخلال بحقوق الغير.
ويظهر من خلال أحكام النظام واللائحة التنفيذية أن المشرّع الخليجي تبنّى منهجًا دقيقًا في عقود ترخيص العلامة التجارية يجمع بين مرونة التصرف من جانب مالك العلامة، وضبط العلاقة القانونية بما يحفظ القيمة الرمزية والتجارية للعلامة، ويمنع تمييعها أو الإساءة إليها. فكل مرحلة من مراحل إبرام عقود ترخيص العلامة التجارية– من الشروط الشكلية والموضوعية، إلى القيود النظامية، إلى إجراءات القيد والشطب – تخضع لضوابط محددة تهدف إلى تعزيز الشفافية، وتحقيق التوازن بين حرية التعاقد ومقتضيات حماية النظام العام التجاري. ومن هنا، فإن هذا المقال يسبر أغوار هذا التنظيم القانوني المتماسك، ويكشف عن بنيته التي تشكّل حجر الزاوية في سوق العلامات التجارية السعودي.

أولًا: ما شروط إبرام عقود ترخيص العلامة التجارية؟ وما نطاق سلطة مالك العلامة في منحه؟
تُعد عقود ترخيص العلامة التجارية من التصرفات القانونية التي أتاحها نظام العلامات التجارية لدول مجلس التعاون الخليجي، وبيّن شروطها وضوابطها بدقة عالية، وذلك في إطار تنظيم علاقات الاستغلال التجاري للعلامات بين مالك العلامة والغير. وقد جاءت المادة (29) من النظام كأساس تشريعي لهذا التنظيم، حيث قررت أنه يجوز لمالك العلامة أن يرخص لأي شخص طبيعي أو معنوي باستعمالها عن كل أو بعض السلع أو الخدمات المسجلة عنها العلامة. ولم يقتصر الأمر على منح الترخيص لطرف واحد، بل أجازت المادة ذاتها لمالك العلامة أن يرخص لأشخاص متعددين باستعمال ذات العلامة، كما أبقت له الحق في استخدامها بنفسه، ما لم يُنص في عقود ترخيص العلامة التجارية على خلاف ذلك.
ومن أهم الشروط التي أوجبتها المادة (29) أيضًا، أن يكون الترخيص محصورًا ضمن المدة القانونية المقررة لحماية العلامة التجارية، إذ لا يجوز أن تتجاوز مدة عقد الترخيص هذه الحماية بأي حال من الأحوال، وهو ما يشكل قيدًا زمنيًا جوهريًا على صلاحيات المالك. وقد أكدت المادة (30) من اللائحة التنفيذية للنظام هذا الحكم، حيث ألزمت بأن يكون عقود ترخيص العلامة التجارية مكتوبًا وموثقًا ومصدقًا حسب الأصول، ومترجمًا إلى اللغة العربية إذا كان محررًا بلغة أجنبية، كما شددت على عدم جواز تجاوز مدة الحماية النظامية.
وفي الإطار ذاته، بيّنت المادة (32) من النظام أنه لا يجوز للمستفيد من الترخيص التنازل عنه للغير أو منحه من الباطن، إلا إذا تضمن عقود ترخيص العلامة التجارية نصًا صريحًا يبيح ذلك، ما يعني أن المشرّع قيد نطاق تصرفات المستفيد وامتداد حقوقه، بما يضمن بقاء سلطة المالك الأصلية في رقابة تداول العلامة ومنع إساءة استخدامها.
وبناءً على ما سبق، فإن إبرام عقود ترخيص العلامة التجارية يخضع لثلاثة شروط متلازمة: أولاها أن يكون العقد مكتوبًا وموثقًا؛ وثانيتها أن يكون محددًا ضمن نطاق زمني لا يتجاوز مدة حماية العلامة؛ وثالثتها أن تظل سلطة منح الترخيص أو تعديله أو منحه من الباطن خاضعة لما يتم الاتفاق عليه صراحة بين الأطراف. وتكفل هذه الضوابط التوازن بين حرية التعاقد من جهة، وضرورة الحفاظ على القيمة النظامية والتنظيمية للعلامة التجارية من جهة أخرى، مع إبقاء العلاقة القانونية في حدود واضحة ومحددة لا تحتمل اللبس.
ثانيًا: ما القيود النظامية المسموح بفرضها على المستفيد من عقود ترخيص العلامة التجارية؟ وما حدودها القانونية؟
لقد تناول نظام العلامات التجارية لدول مجلس التعاون الخليجي مسألة القيود التي يجوز تضمينها في عقود ترخيص العلامة التجارية بشفافية تنظيمية دقيقة، حيث نصّت المادة (30) من النظام على مبدأ عام مفاده أنه لا يجوز فرض قيود على المستفيد من الترخيص إلا إذا كانت تلك القيود ناتجة عن الحقوق التي يمنحها تسجيل العلامة، أو كانت ضرورية للمحافظة على تلك الحقوق. ويضع هذا المبدأ حدًا لأي محاولة من قبل مالك العلامة التجارية لاستغلال مركزه لفرض شروط تعسفية أو غير مبررة تعاقديًا أو نظاميًا.
ومع ذلك، فقد أجازت المادة ذاتها – على سبيل الاستثناء المنضبط – أن تتضمن عقود ترخيص العلامة التجارية ثلاث فئات من القيود المسموح بها صراحة:
- تحديد نطاق المنطقة أو فترة استخدام العلامة: ويمنح هذا القيد لمالك العلامة سلطة جغرافية وزمنية في ترسيم حدود استخدام العلامة، بما يمنع التداخل بين الأسواق أو فترات الاستغلال المتقاربة، ويتيح له التحكم في التوسع التجاري بشكل تدريجي ومنظم.
- الشروط التي تستلزمها متطلبات الرقابة الفعالة لجودة السلع أو الخدمات: ويُعد هذا القيد من أبرز القيود الحمائية التي تحمي القيمة السوقية والمعنوية للعلامة، وتمنع تدهور سمعتها، ويحق للمالك فرض معايير صارمة تضمن بقاء جودة المنتجات أو الخدمات متوافقة مع مستوى العلامة الأصلي.
- الالتزامات المفروضة على المستفيد من الترخيص بالامتناع عن كافة الأعمال التي قد ينتج عنها الإساءة إلى العلامة التجارية: ويتسع هذا القيد ليشمل الامتناع عن الأفعال التي تؤدي إلى تمييع العلامة، أو إضعاف وظيفتها التمييزية، أو إدخال اللبس لدى الجمهور، بما يحفظ السمعة التجارية والقيمة النظامية للعلامة.
وتدل هذه القيود الثلاثة على توجه المشرّع الخليجي نحو موازنة دقيقة بين مصلحة مالك العلامة في الحفاظ على علامته كأصل معنوي استراتيجي، ومصلحة المستفيد في ممارسة النشاط التجاري بحرية ووضوح. وقد جاءت هذه الأحكام لتكون بمثابة دليل نظامي صريح لما يجوز تضمينه في عقود ترخيص العلامة التجارية دون تعارض مع المبادئ الأساسية لحماية الحقوق والالتزامات التعاقدية.
وتجدر الإشارة إلى أن تجاوز هذه القيود أو فرض غيرها مما لا تُجيزه المادة (30) يُعد مخالفة صريحة لأحكام النظام، وقد يعرّض عقود ترخيص العلامة التجارية للبطلان الجزئي أو الكلي أو لعدم النفاذ تجاه الغير، بحسب جسامة المخالفة والتأثير المترتب عليها.
ثالثًا: كيف يتم قيد عقد الترخيص واستعمال العلامة في السجل؟ وما إجراءات الإشهار والنشر؟
من أبرز الركائز الإجرائية التي ينظمها نظام العلامات التجارية ولائحته التنفيذية في إطار عقود ترخيص العلامة التجارية، ما يتعلق بعملية قيد هذا العقد في السجل الرسمي للعلامات التجارية، إلى جانب الإشهار العلني عن واقعة الترخيص. ويُلاحظ أن النظام قد اتّخذ موقفًا مرنًا في هذا الصدد، حيث نصت المادة (31) من النظام على أنه: “لا يُعتد بعقد الترخيص باستعمال العلامة التجارية إلا إذا كان مكتوبًا”، وهو ما يُعد شرطًا شكليًا جوهريًا لانعقاد العقد أصلًا.
كما بيّنت المادة ذاتها أن التأشير بعقد الترخيص في السجل ليس شرطًا لصحة العقد أو لنفاذه بين طرفيه، بل هو إجراء اختياري، إلا أن اللائحة التنفيذية أفردت لهذا الإجراء تنظيمًا تفصيليًا بما يعزز من الحجية القانونية للعقد في مواجهة الغير عند اختياره.
ففي هذا الإطار، نصت المادة (31) من اللائحة التنفيذية على أن طلب قيد عقد ترخيص العلامة التجارية يُقدَّم إلى الإدارة المختصة من أحد أطراف العقد: مالك العلامة أو وكيله المعتمد أو المرخص له، وذلك على النموذج المعدّ لهذا الغرض، وبعد أداء الرسم المقرر. ويتعين أن يتضمن الطلب عدة بيانات أساسية، منها:

- رقم العلامة التجارية المسجلة.
- اسم مالك العلامة وجنسيته.
- اسم المرخص له ومحل إقامته وعنوانه وجنسيته.
- المنتجات أو الخدمات محل الترخيص.
- تاريخ بداية ونهاية الترخيص.
- النطاق الجغرافي للترخيص – إن وُجد.
ويجب إرفاق المستندات التالية بالطلب: عقد الترخيص، وأصل الوكالة، على أن تكون جميع المستندات موثقة ومصدقة حسب الأصول، ومترجمة إلى اللغة العربية إذا كُتبت بلغة أجنبية، وذلك وفقًا لما أوجبته المادة (30) من اللائحة التنفيذية.
أما من حيث الإشهار، فقد تولّت المادة (32) من اللائحة بيان آلية النشر، إذ ألزمت الإدارة المختصة بنشر إعلان رسمي يتضمن البيانات الأساسية الخاصة بعقد ترخيص العلامة التجارية، مثل صورة العلامة، ورقمها وتاريخ تسجيلها، وبيانات أطراف العقد، ونطاق الترخيص الزمني والجغرافي، وفئة المنتجات أو الخدمات المعنية. ويتم النشر في النشرة الرسمية التي تحددها الجهة المختصة بعد دفع تكاليف النشر.
وبهذه الخطوات، يكتسب عقد ترخيص العلامة التجارية حجية نظامية في مواجهة الغير، ويؤدي الإشهار إلى تحقيق العلانية والشفافية وحماية الأطراف من أي منازعات مستقبلية تتعلق باستخدام العلامة من قبل المرخص له. وتجدر الإشارة إلى أن عدم التأشير لا ينال من صحة العقد بين أطرافه، لكنه قد يُضعف من موقفهم القانوني تجاه الغير.
رابعًا: متى تُشطب عقود ترخيص العلامة التجارية من السجل؟ وما هي الضمانات النظامية لحماية الطرفين؟
تُعد مسألة شطب قيد عقود ترخيص العلامة التجارية من السجل من الإجراءات النظامية ذات الطبيعة التنظيمية والضامنة، التي تهدف إلى إنهاء العلاقة النظامية الموثّقة بين مالك العلامة والمرخص له، وفقًا لضوابط تضمن عدم الإضرار بأي من طرفي العقد، وتعكس حرص المشرّع الخليجي على تحقيق التوازن بين حرية التصرف في العلامة من جهة، وحقوق المتعاقدين من جهة أخرى.
وقد نظّمت المادة (33) من نظام العلامات التجارية هذا الشطب، حيث قرّرت أنه يتم بناء على طلب يقدم من مالك العلامة أو المستفيد من الترخيص، مع ضرورة إرفاق ما يُثبت انتهاء أو فسخ عقد الترخيص. كما أوجبت إخطار الجهة المختصة للطرف الآخر رسميًا بوجود هذا الطلب، ومنحته حق الاعتراض عليه وفقًا للإجراءات التي نصت عليها اللائحة التنفيذية، مما يكرّس مبدأ المواجهة ويوفر ضمانة للطرف المتضرر من الشطب.
وفي الإطار التنفيذي، تولّت المادة (33) من اللائحة التنفيذية تفصيل تلك الإجراءات، حيث اشترطت تقديم طلب الشطب مرفقًا بالمستندات التي تثبت الفسخ أو الانتهاء، مع أداء الرسم المقرر. وتلتزم الإدارة المختصة بإبلاغ الطرف الآخر كتابة بطلب الشطب، ويُمنح هذا الطرف ثلاثين يومًا للطعن أمام المحكمة المختصة، مع ضرورة إيداع نسخة من الاعتراض لدى الإدارة المختصة، مرفقًا بما يفيد تقديمه للمحكمة.
وأوضحت المادة (34) من اللائحة أنه في حال عدم تقديم اعتراض خلال المهلة المقررة، أو صدور حكم نهائي من المحكمة المختصة يؤيد الشطب، فإن الإدارة المختصة تقوم تلقائيًا بنشر قرار الشطب في النشرة الرسمية التي تصدرها أو تحددها الجهة المختصة، ثم يتم التأشير في سجل العلامات التجارية بشطب قيد عقد الترخيص، وتزويد مقدم الطلب بما يثبت ذلك.
وتُبرز هذه الإجراءات بوضوح مدى الصياغة المحكمة والضوابط المتسلسلة التي تحكم انتهاء عقود ترخيص العلامة التجارية، والتي تمنع أي طرف من الانفراد بإنهاء العلاقة التعاقدية دون علم الطرف الآخر، أو دون منحه فرصة قانونية كافية للاعتراض والدفاع عن مصالحه. كما أن هذه الإجراءات تعزز من موثوقية سجل العلامات التجارية كمرجع رسمي ووثائقي.
ومن هنا، فإن شطب عقود ترخيص العلامة التجارية لا يُعد مجرد إجراء إداري، بل هو نظام متكامل يوازن بين إنهاء العلاقة القانونية القائمة وبين صيانة حقوق أطرافها. ونوصي هنا بضرورة متابعة العقود المبرمة وتواريخ انتهائها، والتقيد بالإجراءات النظامية عند الشطب، مع تفعيل حق الاعتراض القضائي عند الاقتضاء، بما يضمن فعالية ونزاهة آلية إدارة هذا النوع من العقود في ظل النظام الخليجي.
وختامًا
يتّضح من التحليل المتعمق لأحكام عقود ترخيص العلامة التجارية وفقًا لنظام العلامات التجارية لدول مجلس التعاون الخليجي أن المشرّع الخليجي قد أحاط هذه العقود بإطار قانوني صارم ودقيق، يوازن بين حرية التصرّف التجاري للمالك من جهة، والحفاظ على سمعة العلامة التجارية ومكانتها من جهة أخرى. فالترخيص لم يعد مجرد تفويض بالاستخدام، بل أصبح منظومة قانونية متكاملة ترتكز على ضوابط شكلية وموضوعية، تبدأ من مرحلة الإبرام مرورًا بالتقييد في السجل، ولا تنتهي إلا عند شطب الترخيص وفقًا لإجراءات محددة تحفظ حقوق الطرفين وتمنع التعسف أو التجاوز. وقد تميز النظام بوضع قيود محددة على المستفيد من الترخيص، لا من باب التضييق، بل لحماية الوظيفة التمييزية للعلامة التجارية وضمان عدم الإضرار بها.
وبهذا المنظور الدقيق، ترسم عقود ترخيص العلامة التجارية صورة واضحة لنهجٍ تشريعي واعٍ بأهمية العلامة كأصلٍ تجاري معنوي ذي قيمة اقتصادية واستراتيجية، يستحق حماية دقيقة لا تقل شأنًا عن حماية الملكية المادية. ومن ثم، نُوصي بأن تتضمن هذه العقود بنودًا صريحة تتعلق بمراقبة جودة المنتجات أو الخدمات المرخص بها، وتحديد آليات الرقابة، وشروط سحب الترخيص أو إنهائه، ضمانًا لعدم انحراف الترخيص عن غايته النظامية، وتحصينًا للعلامة من التمييع أو الاستغلال المفرط. وإن استيفاء هذه التفاصيل الدقيقة في بنود العقد، مع الاستفادة من الأدوات التي أتاحها النظام، هو ما يصنع الفارق بين ترخيصٍ مهني ناجح، وآخر مهدد بالإبطال أو النزاع القضائي
