في قلب التنظيمات الاقتصادية المتقدمة، تتجلى حوكمة الشركات بوصفها الإطار النظامي الذي يُعتمد فيه الأداء في ضوء الشفافية والمساءلة، ولا يُترك فيه القرار دون رقابة. ووفق ما قررته لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية السعودية بموجب القرار رقم 8-16-2017 وتاريخ 16 /5/ 1438هـ، الموافق 13 /2/ 2017م، فإن هذا المصطلح لا يُختزل في تعريف تقليدي أو فلسفة إدارية مجردة، بل هو منظومة قانونية متكاملة تتقاطع فيها قواعد السلوك المهني، وآليات الإفصاح، ومبادئ العدالة، وأدوات الرقابة، مع تنظيم دقيق للعلاقات بين مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية والمساهمين وأصحاب المصالح.
وبينما تكشف اللائحة عن خصائصها الجوهرية في ضمان العدالة بين المساهمين، وتكريس الشفافية، وفرض المساءلة، وترسيخ الالتزام الأخلاقي، وتنظيم تعارض المصالح، فإنها في الوقت ذاته تربط هذه الخصائص بأهداف نظامية محددة، تتوزع على تسعة محاور رئيسية تُنظم العلاقة بين الحوكمة والاستثمار، وتربط بين الأداء المؤسسي والممارسات الاجتماعية، وتضبط موقع الشركة داخل السوق عبر قواعد إلزامية واسترشادية محكومة بطبيعة الإدراج.
ولا يقتصر هذا المقال على استعراض المفاهيم، بل ينفذ إلى صلب النصوص النظامية ذاتها، ليحللها بدقة ويعرضها بمنهجية علمية واضحة، ويبيّن كيف تتحول الحوكمة من نص مكتوب إلى ممارسة فعلية داخل كل شركة مدرجة، وفق قواعد مكتوبة تُراجع بانتظام، وتُراقب بصرامة، وتُربط بتقارير داخلية تُفصح وتُحاسب وتُقيم الأداء، دون أن يغيب عن كل ذلك البعد الرقابي الذي يضع هيئة السوق المالية في مركز الضبط والانضباط.

أولًا: ما المقصود بمصطلح حوكمة الشركات في لائحة حوكمة الشركات السعودية؟
تشير لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية السعودية إلى أن مصطلح حوكمة الشركات لا يُفهم بوصفه مجرد إطار تنظيمي عام، بل هو مجموعة من القواعد التفصيلية والإجراءات المحددة التي تضبط القيادة والتوجيه داخل الشركات المساهمة المدرجة. ووفق ما نصت عليه المادة الأولى من اللائحة، فإن الحوكمة تشتمل على آليات واضحة لتنظيم العلاقات المتشابكة بين مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين والمساهمين وأصحاب المصالح، وذلك من خلال قواعد وإجراءات خاصة تهدف إلى تسهيل اتخاذ القرار، وتعزيز الشفافية والمصداقية فيه، وضمان حماية الحقوق، وترسيخ مفاهيم العدالة والمنافسة والنزاهة داخل السوق وبيئة الأعمال.
ولا يقتصر المفهوم على ضبط العلاقة الشكلية بين الجهات الإدارية داخل الشركة، بل يمتد ليؤسس بنية حوكمة تشغيلية تتكامل مع الأنظمة ذات العلاقة، وتُبنى على فهم مؤسسي للتنظيم الذاتي والرقابة الداخلية والمسؤولية القانونية، وهو ما يعكسه الارتباط الصريح لهذا المصطلح ببقية الأحكام النظامية والرقابية المتناثرة في جميع مواد لائحة حوكمة الشركات.
ومن خلال هذا التحديد، يتضح أن اللائحة قد عرفت حوكمة الشركات بصيغة قانونية محكمة، تعكس البعد الإجرائي والتنفيذي والتشغيلي في آنٍ واحد، وتعزز من قابلية هذا المفهوم للتطبيق الإلزامي على مستوى القرار والإدارة والمساءلة.
ثانيًا: ما أبرز خصائص حوكمة الشركات وفقًا للائحة؟
عند الوقوف على الخصائص القانونية الجوهرية التي تتميز بها حوكمة الشركات في ضوء اللائحة، فإن المواد النظامية ذات الصلة تكشف عن خصائص واضحة ومحددة ومترابطة، نوجزها وفق تسلسلها القانوني في خمسة أوجه مركزية، على النحو الآتي:

-
العدالة بين المساهمين:
جاء النص الصريح في المادة الرابعة من اللائحة ليُحمّل مجلس الإدارة مسؤولية كاملة في ضمان العدالة والمساواة بين المساهمين، سواء من حيث حقوق التصويت أم التصرف في الأسهم أم الاطلاع على المعلومات أو حضور الجمعيات العامة. كما شددت الفقرة (ب) من ذات المادة على ضرورة عدم التمييز بين المساهمين المالكين لذات النوع أو الفئة من الأسهم، في حين ألزمت الفقرة (ج) الشركة بأن تبين في سياساتها الإجراءات التي تكفل تمكين جميع المساهمين من ممارسة حقوقهم دون عائق.
-
الشفافية والإفصاح المنتظم:
تشكل الشفافية أحد أهم الخصائص الإلزامية التي فرضتها اللائحة بشكل تفصيلي، وخصوصًا في المادتين السادسة والثمانين والسابعة والثمانين، حيث أوجبت على مجلس الإدارة وضع سياسات مكتوبة للإفصاح، تتضمن آليات دقيقة للإفصاح المالي وغير المالي، وتفرض إتاحة المعلومات لكافة المساهمين وأصحاب المصالح بشكل منتظم وبدون تمييز. كما ألزمت المادة السابعة والثمانين بإدراج بيان شامل في تقرير مجلس الإدارة يغطي جميع الأمور الجوهرية، ومنها المعلومات المالية، والهياكل الإدارية، والتعاملات مع الأطراف ذوي العلاقة، والقرارات الاستراتيجية، والمخاطر.
-
المساءلة الإدارية والمالية:
تُظهر المادة الثانية عشرة أن المساءلة جزءٌ أصيل من بنية الحوكمة، حيث تضمنت صلاحيات الجمعية العامة العادية في مراقبة مدى التزام أعضاء مجلس الإدارة بأحكام الأنظمة واللوائح، والتحقق من سلامة تصرفاتهم في إدارة شؤون الشركة، مع إمكانية تحديد المسؤولية عن أي إخفاق إداري أو مالي. كما أوجبت المادة الخامسة والسبعون على وحدة المراجعة الداخلية تقديم تقارير ربع سنوية وسنوية تُبيّن أوجه القصور أو الإخفاق في نظام الرقابة الداخلية، وما تم اتخاذه من إجراءات بشأنها. وتُعزز المادة الثامنة والثمانون هذه الخصيصة، بإلزام لجنة المراجعة بإعداد تقرير تفصيلي عن أداء مهامها، وبيان رأيها في مدى كفاية نظم الرقابة الداخلية والمالية وإدارة المخاطر.
-
الالتزام الأخلاقي والمهني:
نصت المادة الثالثة والثمانون على أن من واجب مجلس الإدارة وضع سياسة للسلوك المهني تراعي قواعد الأمانة والنزاهة والولاء، وتلزم جميع أعضاء المجلس والإدارة التنفيذية والعاملين ببذل واجب العناية تجاه الشركة. كما تضمنت أحكامًا تمنع استغلال المنصب لتحقيق مصالح خاصة، أو استخدام أصول الشركة خارج نطاق أهدافها، وتضع ضوابط صارمة بشأن الاطلاع على المعلومات الداخلية. ويُلاحظ أن هذه المادة تنقل الجانب الأخلاقي إلى نطاق إلزامي مكتوب ومنظم، مرتبط برقابة داخلية وتقييم دوري.
-
تنظيم تعارض المصالح:
كفلت المواد من الأربعين إلى السادسة والأربعين آليات نظامية محكمة للتعامل مع تعارض المصالح، حيث منعت عضو المجلس من التصويت على أي قرار فيه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة له، وأوجبت الإفصاح المسبق عن تلك المصالح، ووضعت شروطًا صارمة لترخيص التعاملات ذات العلاقة. كما منحت الجمعية العامة سلطة مراجعة تلك الحالات وفقًا للضوابط النظامية. وتؤكد هذه المواد أن معالجة تعارض المصالح ليست أمرًا تقديريًا بل التزام نظامي مقيد بضوابط محددة وصلاحيات رقابية واضحة.
ثالثًا: ما أهداف لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية؟
حددت لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية السعودية في المادة الثالثة منها تسعة أهداف جوهرية تُشكّل الأساس القانوني لتطبيق أحكام حوكمة الشركات داخل الشركات المساهمة المدرجة. وقد جاءت هذه الأهداف بصيغة إلزامية ومترابطة، تُعبّر عن توجه نظامي منضبط لضبط العلاقات الداخلية والإفصاح والرقابة وتعزيز المهنية.
وقد نصت الفقرة الأولى من هذه المادة على أن من أهداف اللائحة تفعيل دور المساهمين وتيسير ممارسة حقوقهم، وهو ما يتوافق مع الأحكام الواردة في الباب الثاني من اللائحة، وخاصة المواد من الرابعة حتى الخامسة عشرة، التي نظّمت الحق في حضور الجمعيات العامة، والتصويت، والاطلاع على المعلومات، ورفع الدعوى، والترشيح، والتصرف في الأسهم، وغيرها من الحقوق المرتبطة بالملكية.
أما الفقرتان الثانية والثالثة من ذات المادة فقد نصّتا على أن من أهداف اللائحة بيان اختصاصات مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية، وتفعيل دور مجلس الإدارة واللجان وتطوير كفاءتها لتعزيز آليات اتخاذ القرار، وتدعم هذه الأهداف مواد عديدة من الباب الثالث، وعلى وجه التحديد المواد من السادسة عشرة حتى الثلاثين، التي تضع إطارًا تفصيليًا لتكوين المجلس، وشروط العضوية، وتوزيع المسؤوليات، وحوكمة أعمال المجلس، وضوابط تشكيل اللجان ومهامها، وتقييم الأداء المهني والرقابي.
وتضمنت الفقرة الرابعة من المادة الثالثة هدفًا مباشرًا يتعلق بتحقيق الشفافية والنزاهة والعدالة في السوق المالية وبيئة الأعمال وتعزيز الإفصاح، وهو ما يُكمله مضمون المادتين السادسة والثمانين والسابعة والثمانين، والتي أوجبت على مجلس الإدارة اعتماد سياسات مكتوبة للإفصاح تتضمن آليات عرض البيانات المالية وغير المالية، وتحديد المحتوى، وتوقيته، ودقته، ووسائل الوصول إليه، مع إلزامه بإدراج الإفصاحات التفصيلية في تقرير مجلس الإدارة السنوي، وفقًا لتفصيلات إلزامية حددتها اللائحة بدقة.
كما نصت الفقرة الخامسة من المادة نفسها على ضرورة توفير أدوات فعالة ومتوازنة للتعامل مع حالات تعارض المصالح، وهو ما يُفصّل في الباب الخاص بتعارض المصالح، من المادة الأربعين حتى المادة السادسة والأربعين، حيث وضعت اللائحة إجراءات إلزامية للترخيص والإفصاح والمنع من التصويت، وشروطًا محددة لإثبات الاستقلالية، وآليات رقابية محكمة على أعمال المجلس ذات الصلة بالأطراف ذوي العلاقة.
وقد ورد في الفقرة السابعة أن من أهداف اللائحة أيضًا وضع الإطار العام للتعامل مع أصحاب المصالح ومراعاة حقوقهم، وهو ما انعكس بوضوح في المواد الثمانين حتى الثانية والثمانين، التي ألزمت الشركة بوضع سياسات مكتوبة تحدد حقوق العاملين والموردين والعملاء والدائنين والمجتمع، وآليات حمايتها، وضمان التبليغ عن المخالفات، والمشاركة في الشكاوى والمبادرات.
وفي ذات الإطار، نصت الفقرة التاسعة من المادة الثالثة على هدف صريح هو توعية الشركات بمفهوم السلوك المهني وحثها على تبنيه وتطويره بما يلائم طبيعتها، وهو ما يتكامل مع المادة الثالثة والثمانين التي تفرض على مجلس الإدارة اعتماد سياسة مكتوبة للسلوك المهني، تتضمن ضوابط استخدام الموارد، والالتزام بالنزاهة، ومنع استغلال المعلومات أو المنصب، ومراقبة تطبيق هذه السياسات بفعالية داخلية.
وبذلك يتضح أن المادة الثالثة من اللائحة لم تكتف بتحديد أهداف صورية، بل ربطت هذه الأهداف بمواد تنفيذية تفصيلية داخل كل باب من أبواب اللائحة، على نحو يُمكّن من مراقبة تحقق هذه الأهداف فعليًا.
رابعًا: من هم الأطراف المشمولة بتطبيق حوكمة الشركات وفقًا للائحة؟
حددت المادة الأولى من لائحة حوكمة الشركات (التعريفات) الأطراف المعنيين بتطبيق أحكام الحوكمة، وأكدت عليهم المادة الثالثة والمادة الحادية والتسعين، وهم:

-
مجلس الإدارة:
يشمل ذلك: رئيس المجلس، والأعضاء التنفيذيين، وغير التنفيذيين، والمستقلين، وجميعهم يُخاطبون بأحكام الباب الثالث، والمادة الثالثة، والمادة الحادية والتسعين، بما يفرض عليهم التزامًا مباشرًا بمهام الرقابة، والمساءلة، والمشاركة في رسم الاستراتيجية، والإفصاح، والرقابة على الالتزام، وحوكمة العلاقات.
-
الإدارة التنفيذية:
وتشمل هذه الفئة الرئيس التنفيذي، ونوابه، والمدير المالي، ومن في حكمهم من كبار التنفيذيين، وتخضع هذه الفئة لأحكام المواد الخاصة بالاختصاصات، والتقارير، والإفصاح، والشفافية، والمساءلة، وخاصة المواد (20، 21، 75، 87، 90)، إضافة إلى ما يرتبط بها من مسؤوليات بموجب تقرير لجنة المراجعة، ووحدة الرقابة الداخلية.
-
المساهمون:
يُعتبر المساهمون طرفًا أصيلًا في بنية الحوكمة، وتُطبق عليهم أحكام الباب الثاني، خاصة المواد من الرابعة حتى الخامسة عشرة، التي تُنظم كافة جوانب العلاقة التعاقدية من حيث التصويت، وحضور الجمعيات، والاطلاع، والترشيح، والمساءلة، والتصرف، والطعن، ورفع الدعاوى، وغيرها من حقوق المساهم الأصلي والمباشر.
-
أصحاب المصالح:
عرفتهم اللائحة في المادة الأولى بأنهم كل من له مصلحة مع الشركة، كالعاملين، والدائنين، والعملاء، والموردين، والمجتمع، وقد خصصت لهم اللائحة الباب السابع بالكامل (المواد 80–82)، وألزمت مجلس الإدارة باعتماد سياسات مكتوبة تنظم العلاقة معهم وتكفل حمايتهم وتمكينهم من التبليغ عن المخالفات، والمشاركة في المبادرات، والوصول إلى المعلومات، والحصول على المعاملة العادلة.
كما نصت المادة الحادية والتسعين على أن من واجب مجلس الإدارة وضع قواعد داخلية للحوكمة لا تتعارض مع الأحكام الإلزامية، ومراجعتها وتحديثها وتقييم فعاليتها دوريًا، مما يُرتب التزامًا نظاميًا مباشرًا على جميع هذه الأطراف بالتقيد العملي والفعلي بأحكام اللائحة، وفق ما ورد فيها من قواعد ومعايير واضحة.
خامسًا: ما العلاقة بين حوكمة الشركات والاستثمار؟
نصت المادة الثالثة من لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية السعودية على أن من أهداف اللائحة تحقيق الشفافية والنزاهة والعدالة في السوق المالية وتعاملاتها وبيئة الأعمال وتعزيز الإفصاح فيها، وهو ما يشكل الأساس القانوني الرابط بين تطبيق الحوكمة وبين الاستثمار المسؤول، وذلك من خلال ضمان وجود قواعد إلزامية تحكم الإفصاح، وتمنع تضارب المصالح، وتفرض الوضوح في هيكلية الملكية واتخاذ القرار.
كما أكدت المادة الخامسة والثمانون على التزام مجلس الإدارة بوضع البرامج والوسائل اللازمة لطرح مبادرات الشركة في مجال العمل الاجتماعي، وتضمين هذه المبادرات ضمن المؤشرات المرتبطة بقياس الأداء المؤسسي، مع الإفصاح عن أهداف المسؤولية الاجتماعية في التقارير الدورية، وهو ما يعكس تداخلًا نظاميًا مباشرًا بين مفاهيم الحوكمة والممارسات البيئية والاجتماعية ذات الصلة بقرارات الاستثمار.
وتُستكمل هذه العلاقة في المادة السابعة والثمانين، التي أوجبت إدراج تفاصيل دقيقة في تقرير مجلس الإدارة عن الأداء العام، والمخاطر، والإفصاحات، والقيم، والالتزامات، والمبادرات الاجتماعية، ومصادر التمويل، والالتزام بالمعايير الرقابية، مما يُمكّن من إتاحة معلومات وافية تُمكّن المستثمر من اتخاذ قرار مبني على معايير شفافة وموثقة وموحدة، وفق التزامات قانونية صريحة ومحددة.
سادسًا: كيف تُطبّق الحوكمة فعليًا داخل الشركات المدرجة؟
نصت المادة الحادية والتسعين على أن من واجب مجلس الإدارة أن يضع قواعد مكتوبة خاصة بحوكمة الشركة، بشرط ألا تتعارض مع الأحكام الإلزامية المنصوص عليها في اللائحة، وأن يراجع هذه القواعد بصفة دورية، ويتحقق من مدى الالتزام بها وفعاليتها، ويُعدّلها عند الحاجة، وأن يعمل على تطوير السياسات والإجراءات الداخلية بما يتوافق مع أفضل الممارسات التنظيمية والتنفيذية.
وأشارت المادة الثانية والتسعين إلى إمكانية تشكيل لجنة متخصصة ضمن هيكل المجلس تُعنى بمتابعة تنفيذ قواعد الحوكمة، وتقديم تقارير وتوصيات دورية لمجلس الإدارة، على أن تُفوّض إليها اختصاصات المتابعة والتوصية والتقويم، بما يضمن استمرارية الرقابة على الالتزام العملي بالقواعد المكتوبة، ومواكبة التحديثات النظامية، وربط التطبيق الداخلي بالممارسات الإشرافية.
ويُستفاد من هاتين المادتين أن التطبيق الفعلي لحوكمة الشركات لا يُترك لتقدير الشركة أو الإدارة التنفيذية، بل يتم من خلال منظومة داخلية مكتوبة، ورقابية، ومدروسة، وموثقة، وخاضعة للمراجعة الدورية، وقابلة للقياس.
سابعًا: ما الفرق بين الأحكام الإلزامية والاسترشادية في اللائحة؟
نصت المادة الثانية من اللائحة في فقرتيها (ب) و (ج) على التفريق الصريح بين الأحكام الإلزامية والأحكام الاسترشادية؛ إذ أكدت أن جميع أحكام اللائحة تعتبر إلزامية على الشركات المدرجة في السوق الرئيسية، باستثناء ما يُنص فيه صراحة على أنه استرشادي، بينما تُعد معظم أحكام اللائحة استرشادية على الشركات المدرجة في السوق الموازية، باستثناء الأحكام التي تم النص صراحة على إلزاميتها بالنسبة لتلك السوق.
كما حددت الفقرة (ج) من نفس المادة المواد التي تُعد إلزامية على الشركات المدرجة في السوق الموازية، وهي الفقرة (ج) من المادة الثالثة عشرة، والفقرة (ب) من المادة الخمسين، والفقرة (أ) من المادة الحادية والخمسين، والمادة الثانية والخمسون، والمادة السادسة والخمسون، والمادة الثامنة والثمانون، مع إمكانية إلزام بعض الأحكام الأخرى بقرارات تصدرها الهيئة.
ويظهر من هذا التقسيم أن التكييف القانوني للأحكام في اللائحة يرتبط بطبيعة السوق الذي تُدرج فيه الشركة، وهو ما ينعكس على درجة الالتزام، ومدى الرقابة، وحدود المرونة التنظيمية الممنوحة للشركات بحسب تصنيفها، دون الإخلال بالقواعد النظامية الأساسية المنصوص عليها في نظام الشركات ونظام السوق المالية.
وختامًا،
فإن استقراء النصوص الدقيقة في لائحة حوكمة الشركات الصادرة عن هيئة السوق المالية السعودية يكشف عن منظومة قانونية متكاملة لا تكتفي بمجرد التنظير، بل تُنزل أحكامها على أرض الواقع من خلال قواعد إلزامية، وخصائص تنفيذية، وأهداف تشغيلية قابلة للتتبع والقياس، ترتبط جميعها ببنية واضحة تحكم العلاقة بين مكونات الشركة المختلفة وتضبط أداءها الاستراتيجي والرقابي والمالي. وبينما تتمايز حوكمة الشركات بما تحمله من أدوات تضمن الشفافية، والمساءلة، والعدالة، فإنها في ذات الوقت تُرسي دعائم بيئة استثمارية مسؤولة تستقطب الثقة وتُعزز الاستقرار المؤسسي. وانطلاقًا من هذا الفهم، فإن التوصية الدقيقة التي يفرضها هذا المقال تتمثل في: ضرورة أن تبادر كل شركة مساهمة مدرجة إلى صياغة دليل حوكمة داخلي مكتوب، يستند مباشرة إلى نصوص اللائحة، ويُحدّث دوريًا، ويُدمج فعليًا في قرارات مجلس الإدارة، لا باعتباره إجراء شكليًا، بل كأداة تشغيلية محورية لضمان الامتثال والفاعلية والاستثمار الرشيد.
